التميز المؤسسي الطريق إلى مستقبل مستدام

التميز المؤسسي الطريق إلى مستقبل مستدام

يدعونا ديننا الحنيف في غير ما موضع من القرآن والسنة النبوية إلى الجودة والتميز في أعمالنا ومؤسساتنا؛ قال الله تعالى في كتابه الكريم: ” وقل أعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنين” ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه “. وعلى الجانب المعرفي والعملي فإن تحقيق التميز المؤسسي في المنظمات ومنشآت الأعمال لم يعد ترفاً فكرياً، بل أصبح واقعاً عملياً، ومفهوماً أساسياً للتنافسية في ظل التغيرات والتحولات المتسارعة والشاملة لكافة مناحي الحياة. فالتميز المؤسسي يمثل العنصر الأهم في تميز المنتجات والخدمات، والمرتكز المحوري في النمو وتحقيق العائدات، فلا مجال أمام المنظمات اليوم إلا تمكين ثقافة التميز في مختلف قطاعاتها وإداراتها وتعزيز مساراته نحو التميز الشامل لتحقيق النتائج المبهرة.

الأهمية والدافعية

لقد طرأت العديد من التغيرات في المفاهيم الإدارية خلال العقدين الماضين، وتحول الحديث من الإدارة إلى الريادة، وطغى التركيز على رأس المال البشري على رأس المال المادي، وامتدت التغيرات لتشمل جودة المخرجات ومستويات الأداء، إلى أن وصلت إلى هيكل المنظمة ككل، حيث اتجهت المنظمات إلى التقلص والتحول إلى مجموعة شركات صغيرة لمواجهة التحديات وتدعيم القدرة التنافسية، والارتقاء بالأداء المؤسسي. ويحدد خبراء الجودة والتميز المؤسسي عدداً من الأسباب والدوافع التي تحتم على المنظمات ومنشآت الأعمال التوجه نحو التميز المؤسسي، والتي من أهمها: التغيرات والمفاجآت السريعة في هذا العصر، وزيادة حدة المنافسة وتنوعها، وللمحافظة على استقرار المنظمة ومكانتها، وتنامي الشعور بالجودة، إضافة إلى ثورة تكنولوجيا المعلومات، والاتجاهات الحديثة في تطوير الأداء المؤسسي.

مراحل التطور

وحين نبحث في تاريخ الفكر الإداري الحديث ومداخله المختلفة، تبدو لنا ضخامة الجهود التي بذلت لتحديد مفاهيم التميز ومعاييره، فقد تناولته كل مدرسة من مدارس الفكر الإداري الحديث حسب فلسفتها ومنطلقاتها الخاصة؛ فالإدارة العلمية حددت مفهوم التميز بالكفاءة، والعلاقات الإنسانية تضيف البعد البشري، وتعتمد مدرسة النظم النظرة الشمولية للمنظمة.. إلى آخر الثمانينات من القرن الماضي حيث بدأ مفهوم التميز بالظهور والتطور فكان النموذج الأوربي للتميز المؤسسي الذي بنيت عليه الجائزة الأوربية للجودة في العام 1992مـ، إلى أن خرج التميز من عباءة الجودة الشاملة في العام 1999م حيث تم الاستغناء عن كلمة جودة إلى كلمة تميز، فأطلقت المبادرات والجوائز لممارسات التميز حتى تم رصد 94 جائزة للتميز في العام 2011م على مستوى العالم حسب الأبحاث المنشورة.

المفاهيم الأساسية للتميز

المؤسسات المتميزة تبني أسس تميزها على التركيز على خلق القيمة المضافة للمتعاملين وخلق مستقبل مستدام من خلال بناء القدرة  المؤسسية والقيادة بالرؤية والطموح والمثل وفعالية كفاءة القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة وإحداث التغيير والنجاح من خلال مواهب العاملين بما يضمن استدامة تحقيق نتائج متفردة. هذه هي المفاهيم الأساسية الثمانية للتميز وفقاً لنموذج التميز الأوروبي 2013 م، ولتتجلى أكثر سوف نستعرضها فيما يلي مع التوضيح والبيان:

إضافة قيمة لصالح المتعاملين

تقوم المؤسسات المتميزة بإضافة قيمة لصالح المتعاملين معها بصورة مستمرة ومنتظمة من خلال التعرف على مختلف المتعاملين معها، وترجمة احتياجاتهم وتوقعاتهم إلى عروض قيمة مستدامة وجاذبة، وبناء وتطوير حوار متواصل معهم يتسم بالشفافية والمصارحة، وإشراكهم كلما أمكن في تطوير وابتكار خدمات ومنتجات وتجارب جديدة، إضافة إلى متابعة تجارب المتعاملين، ومقارنة أدائها مع مستويات الأداء والمعايير القياسية ذات الصلة.

بناء مستقبل مستدام

تقوم المؤسسات المتميزة بإضفاء أثراً إيجابياً على العالم من حولها من خلال تحديد ونشر الغرض الأساسي للمؤسسة، وصياغة قيم مشتركة لخدمة المجتمع كافة، واستيعاب مفاهيم الاستدامة في المحتوى الأساسي لإستراتيجية المؤسسة، ووضع المرجعية العلمية والعملية الملائمة لإيجاد صيغة متوازنة بين متطلبات الإنسان والحفاظ على البيئة وتحقيق الأرباح، وتشجيع جميع المعنيين بالمؤسسة، وتخصيص الموارد اللازمة لتلبية الاحتياجات على المدى الطويل، وتصميم الحزمة المتكاملة للخدمات والمنتجات وضمان الإدارة النشطة لدورة الحياة، إضافة إلى الترويج والنشر الفعال للمعايير الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في مختلف قطاعاتها.

تنمية القدرة المؤسسية

تقوم المؤسسات المتميزة ببناء وتطوير قدراتها من خلال تحليل اتجاهات الأداء التشغيلي، وتطوير سلسلة قيمة ذات كفاءة، وتنمية ثقافة مؤسسية لتعميق فاعلية التعاون المشترك وبناء روح الفريق، وضمان توفر كافة الموارد المالية والمادية والتقنية، وتأسيس الإطار العام لسلسلة القيمة بالمؤسسة، والعمل المشترك مع الشركاء لتحقيق المنافع المتبادلة، وإنشاء شبكات مناسبة لتحديد فرص الشراكات المستقبلية لتحقيق قيمة مضافة لصالح المتعاملين.

تسخير الإبداع والابتكار

تقوم المؤسسات المتميزة بتعزيز القيمة المضافة وتحقق مستويات متصاعدة للأداء من خلال صياغة منهجيات لإشراك المعنيين بالمؤسسة وتحقيق الاستخدام الأمثل للمعارف المتراكمة، وتأسيس وإدارة شبكات التعاون المشترك لتحديد فرص الإبداع والابتكار والتحسين، ووضع غايات وأهداف واضحة للإبداع، وتبني واستخدام منهجية منظمة لإنتاج الأفكار الإبداعية وترتيبها وفق الأولويات، إضافة إلى اختبار وتنقيح الأفكار الجديدة الواعدة ومن ثم تسخير الموارد اللازمة لتحقيقها خلال الإطار الزمني الملائم، وتحويل الأفكار إلى واقع خلال المدى الزمني الذي يحقق الاستفادة القصوى منها.

القيادة من خلال الرؤيا والمثل

تحظى المؤسسات المتميزة بوجود قادة قادرين على صياغة المستقبل وتحويله إلى واقع من خلال شحذ الهمم والسعي لخلق ثقافة الإشراك والحيازة والتمكين، والتحسين، وتجسيد القيم المؤسسية وإعطاء القدوة الحسنة في النزاهة والمسؤولية المجتمعية والسلوك المهني، وصياغة مسار مستقبلي واضح وتحديد مرتكزات إستراتيجية للمؤسسة وتعميمها، والتحلي بالمرونة والقدرة على صناعة القرارات الصائبة، إضافة إلى تبني ثقافة تدعم إنتاج الأفكار الجديدة، والاتسام بالشفافية وتحمل المسؤولية تجاه جميع المعنيين بالمؤسسة والمجتمع ككل.

الإدارة بمرونة وسرعة التكيف مع التغيير

تمتلك المؤسسات المتميزة الكفاءة والفاعلية في اغتنام الفرص المتاحة وسرعة التجاوب التحديات الماثلة من خلال استخدام الآليات المناسبة للتعرف على المتغيرات في البيئة الخارجية وترجمتها إلى سيناريوهات مستقبلية ممكنة بالنسبة للمؤسسة، وترجمة الإستراتيجيات المؤسسية إلى عمليات متوائمة، ومشاريع منبثقة عنها بالسرعة المناسبة، وتطوير مجموعة من مؤشرات أداء العمليات ونتائج مخرجات الأعمال ذات الصلة، بالإضافة إلى إدارة التغيير بفاعلية، والسرعة في التكيف ومواءمة الهيكل التنظيمي، وتقييم وتطوير الحزمة التقنية.

النجاح من خلال مواهب العاملين

تقدر المؤسسات المتميزة موظفيها وتقوم بإيجاد ثقافة التمكين لهم من خلال تحديد المهارات والكفاءات ومستويات أداء الموظفين المطلوبة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية، والتخطيط الفعال لجذب وتطوير والاحتفاظ بالمواهب والقدرات المطلوبة، والمواءمة بين الأهداف الشخصية وأهداف الفريق وتمكين الموظفين من الاستنهاض الكامل لقدراتهم الكامنة، إضافة إلى ضمان وجود بيئة عمل صحية ومتوازنة مع الحياة المعيشية، وتطوير مهارات وقدرات الموظفين، وتشجيعهم وتقدير جهودهم وإنجازاتهم.

استدامة النتائج الباهرة

تحقق المؤسسات المتميزة نتائج باهرة ومستدامة من خلال تحديد وتفهم النتائج الرئيسية المطلوبة لتحقيق الرسالة وتقييم مستوى التقدم نحو تحقيق الرؤيا والأهداف الإستراتيجية، ومراجعة مستوى التقدم، وإعطاء نظرة معمقة للأولويات، والتطبيق المنتظم للإستراتيجية، وتأسيس أهداف على نتائج مقارنات معيارية بين أداء المؤسسة مع مؤسسات أخرى، وبين القدرات الحالية والكامنة للمؤسسة، إضافة إلى تحقيق أعلى مستويات الثقة للمعنيين، وضمان تحري الشفافية في إعداد التقارير المالية وغير المالية، وتزويد القادة بمعلومات دقيقة وكافية.

تجارب التميز

حققت كثير من المنظمات والمؤسسات قفزات نوعية في مستوى الأداء وارتفاع العائدات لتطبيقها نماذج التميز المؤسسي، ففي مسح أجرته شركة “هاريس انترآكتيف” على أكثر من 30.000 مواطن أمريكي جمعت آرائهم من حيث أبرز 60 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية ، واختارت أهم 6 تصنيفات لتحديد الأفضلية؛ منها: جودة المنتجات والخدمات، والرؤية والقيادة، وبيئة العمل، والأداء المالي، فحصلت جوجل على المركز الأول بـ 84.05 نقطة حسب التصنيف، واحتلت شركة “جونسون آند جونسون” المرتبة الثانية، يليها مجموعة شركات 3M ، ثم يأتي في المرتبة الرابعة مجموعة شركات “بيركاشير هاثاوي”، واستطاعت “آبل” أن تحقق المركز الخامس في الدراسة بمجموع 82.05 نقطة، وخارج أول 5 شركات في الدراسة ، ظهر كل من ” إنتل ، أمازون ، سوني ، ومايكروسوفت ” ، وللمرة الأولى يظهر “فيس بوك” في منتصف قائمة الشركات الأبرز في الولايات المتحدة الأمريكية برصيد 74.12 نقطة .
ومن التجارب المحلية الرائدة في التميز المؤسسي تجربة كهرباء ومياه دبي؛ أول مؤسسة حكومية تتبنى مبادرة «مؤشر السعادة»، وتفوز بجائزة برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز بدولة الإمارات، فقد حققت نتائج تنافسية عالمية في العديد من مؤشرات الأداء كخفض نسبة الفاقد في شبكات نقل وتوزيع الكهرباء إلى حوالي 3.3 % مقارنة مع نسبة 6-7% في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وانخفضت نسبة الفاقد في شبكات المياه إلى 8.2% مقارنة مع 15% في أمريكا الشمالية. كما حققت أفضل النتائج العالمية في معدل انقطاع الكهرباء لكل مشترك سنوياً، والذي بلغ 3.87 دقيقة انقطاع للمشترك مقارنة مع 15 دقيقة مسجلة لدى نخبة شركات الكهرباء في دول الاتحاد الأوروبي. فحققت  وللعام الثالث على التوالي، المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والرابعة عالمياً في سهولة الحصول على الكهرباء بحسب نتائج تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2016م الصادر عن البنك الدولي.