استشراف المستقبل 2

استشراف المستقبل 2

استشراف المستقبل 2

بقلم د. أنيس رزوق
مستشار تخطيط استراتيجية الجودة والتميز، خبير حوكمة معتمد، خبير ادارة مركز اسعاد المتعاملين، (7 STAR).
“استشراف المستقبل (2) ”

هل علم المستقبل أو استشراف المستقبل أو علم المستقبليات ؟
الجزء الأول:
سيتم تناول هذه المقالة من خلال جزئيين تسهيلاً على القارئ ولعدم الاطالة والشعور بالملل.
وإن الجنس البشري لم يعيش بعيداً عن التفكير في مستقبله، فمنذ ألاف السنين عرف أجدادنا الحياة والموت وسعّوا لوسائل عدة لاكتشافه، والاهتمام بالمستقبل شيئاً مميزا وسمة بشرية ظهرت منذ فجر التاريخ حاول الإنسان من خلالها معرفة ذاته ومكانه في الحياة ومصيره المستقبلي، وهذا واضح أيضاً في الحضارات القديمة من بداية تنبئها بما يتعلق بالطقس والظواهر الطبيعية، ففي مصر القديمة بنيت الأهرامات وشيدت مراكز الوحي والتنبؤ مثل (أمون رع ) و(هليوبوليس) ونظمت الحياة بأكملها التزاماً بفكرة البعث بعد الممات، فابتدعت مراكب الشمس، وحنطت الأجساد، وبرزت علوم الفلك، وفي اليونان القديمة (الإغريقية) قام الإغريق بحفر ونقش الصخور من أجل الأجيال القادمة، وظهرت معابد الوحي في (دلفي) و(دودونا) و(برانشيدا) كأمكنة لاقتحام المستقبل، وأيضا ذات الأمر تكرر في حضارات مماثلة في (بابل) والهند والصين والمايا والأزتيك حيث هيمن التوجه المستقبلي على تفكير الإنسان فيها. (1)
ومن خلال تطور الدراسات المعنية بدراسة المستقبل تببن استخدام عدم مصطلحات أو مترادفات تستخدم لبيان نفس المعنى، فهناك علم المستقبل (Futurology) ومصطلح بحوث المستقبليات (Futures Research) ودراسات البصيرة (Foresight Studies) وبحث السياسات ( Policies Research) والمنظور أو المأمول المستقبلي (Prospective) والتنبؤ المشروط ( Forecasting) والمستقبلية ( Futurism)، ومعظمها يدلل على محاولات لرسم صور للمستقبل إما تكنولوجية أو اجتماعية أو الإثنين معا، والتسمية الشائعة لهذا العلم هو (علم المستقبل) كما ورد على يد الكاتب الألماني (أوسيب فلختايم) عام 1944 الذي استخدمه في ادانة الماركسية تحقيقا لأهداف عسكرية، وعلى الرغم من كثرة المحاولات عبر التاريخ مثل محاولة الفيلسوف الفرنسي (براتراند دي جوفنيل) وزميله (جاستونبرجيه) في علم الاجتماع بإطلاق مصطلح (المأمول أو المنظور المستقبلي) (Prospective)، وطرحت الدول الاشتراكية مصطلح مقابل لعلم المستقبل (التنبؤ التخطيطي)، إلا أن الأكثر قبولا الآن في العالم هو علم المستقبليات ومن ثم مفهوم المستقبلية، لذا سنتناول ما نقدمه في هذه المقالة والمقالات اللاحقة تحت عنوان، الدراسات المستقبليات أو استشراف المستقبل.
وذات الحال عند الباحثين العرب، فقد تباينت التسميات للدلالة على علم المستقبل من قبيل استشراف المستقبل، التنبؤ بالمستقبل، دراسات المستقبل، صور المستقبل العربي، بدائل المستقبل، الاستشراف المستقبلي، المستقبلية، وكل المصطلحات ذات الصلة، ورغم تعددها فإن هناك ثلاثة مصطلحات، أخذت الأولوية في التداول وهي : علم المستقبل، الدراسات المستقبلية، استشراف المستقبل، أو الدراسات الاستشرافية (2)
وفــي اســتــطــلاع لــلــرأي تبنته الجمعية الأمريكية لمستقبل العالم حول المصطلح الذي يجب تبنيه على هذا النوع من الدراسات ونشرته في مجلتها الشهرية Futurist (شباط /فبراير 1977)، اتجهت الغالبية العظمى من الآراء (72%) نحو تفضيل مصطلح الدراسات المستقبلية ومرادفاته، بينا صوت لمصطلح (علم المستقبل) (Futurology) فقط (14%).(3)
1. نشأة الدراسات المستقبلية :
يشير عدد من الباحثين إلى تاريخ وتطور معين للدراسات المستقبلية، وإن التاريخ العلمي لظاهرة الدراسات المستقبلية يبدأ من نقطة محاولة إيجاد منهج علمي قابل للتراكم المعرفي للتعامل مع الآتي بعد الحال وقد قسمت مراحل التطور في هذه الميدان إلى ثلاث مراحل وهي:
أولا : مرحلة اليوتوبيا :
اليوتوبيا، وقد عرفها معجم المحيط بأنها، “أفكار متعالية تتجاوز نطاق الوجود المادي للمكان، وتحتوي على اهداف ونوازع العصر غير المحقة، ويكون لها تأثير تحويلي على النظام الاجتماعي القائم”، وتعتبر بمثابة تخيل مؤشرات أو أحداث أو أمكنة مثالية مبنية على الخيال باعتقاد تحقيقها، كما تخيل أفلاطون المدينة الفاضلة تقوم على العدالة والمساواة، وأيضاً تخيل القديس أوغسطين صراعا بين مدينة الله المبنية على أساس الفضيلة ومدينة الإنسان المبنية على الغرور والشر، وافترض صدق المستقبل للمدينة الأولى وعلى الناس أن يسعوا لتحقيقها.
وتعتبر هذه المرحلة بمثابة المرحلة الأسطورية تعتمد على غريزة الإنسان وأمله وطموحه، وحيثيات البيئة التي انطلق منها هذا الخيال مرتبطة بالتفائل والتمني الإنساني مع عدم استنادها إلى أسس أو مناهج معينة معدة مسبقا، مما يبعد هذه المرحلة عن الواقع ويجعلها في منظور الخيال.
ثانياً : مرحلة بداية تأسيس الفكر المستقبلي :
تمتاز هذه المرحلة بكونها تأسيس لقواعد التفكير الخاص بالمستقبل والخروج بأفكار أكثر جدية، وأشار البعض بأن نشأة الدراسات المستقبلية تعود للعالم الاقتصادي الإنكليزي توماس مالتوس(1766 – 1843م) المتسمة بالتشاؤم لحل التناقض الاجتماعي الناتج عن الثورة الصناعية والتمايز الطبقي في المجتمع البريطاني، وأيضا العالم الفلكي الألماني ألبرت فيليفا (1193-1280)، وقد جاء على لسانه بأن الإنسان سوف يطير إلى القمر بعد (700-800)سنة من وفاتي، وأيضا مساهمة الروائي الفرنسي جون فيرن (1828-1903م)، في كتاباته للأطفال من خلال مؤلفاته (حول العالم في ثمانين يوماً)، وأيضا كتابه الشهير (عشرون ميلا تحت سطح الماء).(4)
وقد كانت نقطة التحول الأساسية في هذه المرحلة هي الخطة الخمسية لحكومة الاتحاد السوفيتي في عام 1921 لتعميم الكهرباء على معظم مناطق الاتحاد السوفييتي، وعلى الرغم من استهجان فكرة الخطة ومدى صعوبة تنفيذها للشك في إمكانية التحكم في مسار الأحداث لخمس سنوات، إلا أن نجاحها وضع بصمة جديدة في مجال التخطيط بعيد المدى، وفتح المجال أمام دراسة التغير والتكيف وكيفية التفاعل بينهما، وأيضا نجاح الخطة تركت أثرها على الباحثين الغربيين، وتبلور ذلك بداية بظهور مجلة الغد (Tomorrow) في بريطانيا عام 1938، ومما لفت الانتباه في هذه المجلة تأكيدها على ضرورة إنشاء وزارة للمستقبل في بريطانيا.
وبعد الحرب العالمية الثانية والنظرة التشاؤمية التي اعترت الإحساس ودمرت الأرواح واقتلعت أساليب التفكير المستقبلي، مما أدى لعدم تشجيع الباحثين على الدراسات المستقبلية، إلا أن عدداً من الفلاسفة وفي طليعتهم الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر(Gaston Berger)، تحدى هذه النظرة وأنشأ المركز الدولي للاستشراف (Centre International de Prospective) عام 1957 بهدف تشجيع الباحثين للتفكير في الغد بنظرة أكثر تفاؤلاً ، والتي تركزت جهوده على عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية والتطور التكنولوجي والربط بينهما، وأثر كل منها على الأخرى، والتركيز على كيفية إيجاد طرائق بحثية تربط بين التطور التقني والتطور الاجتماعي المستقبلي والذي تجلى بشكل كبير في بعض التقنيات المعروفة مثل تقنية دلفي(Delphi Technique)، أو مصفوفة التأثير المتبادل(Cross Impact Matrix ) ، هذا ما أدى إلى تحول واضح في مناهج البحث في الدراسات المستقبلية.
وفي ذات الحقبة بدأ العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل(Bertrand de Jouvenel) بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وتمكن من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة(Futureless) الذي يؤكد فيه أن المستقبل ليس قدراً بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه “المفضل”، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي، أي فكرة تعدد الاحتمالات. وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ(The Art of Conjecture) نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية.
وقد تنبهت المؤسسة العسكرية الأمريكية لجدوى الدراسات المستقبلية، وركزت على توظيفها لصالح الأمن القومي، وكانت القوات الجوية الأمريكية هي الأكثر اهتماما بهذا الموضوع، ولعبت مؤسسة راند(Rand) من خلال جهود عالم الرياضيات الأمريكي أولاف هلمر(Olaf Helmer) دورا بارزا لا سيما في التوسع في استخدام تقنية دلفي، وكان للعالم الأمريكي هيرمان كان(Herman Kahn) الدور الريادي في تطوير تقنية السيناريو التي تقوم على فكرة محددة هي : (إذا –فإن) ، (If-Then) وتعتبر أكثر التقنيات رواجاً، كما برزت جهود علماء أوروبيين مثل الهولندي فرد بولاك الذي أصدر كتابا هو(The Image of the Future) عام 1961 ثم كتابه الهام(Prognostics) عام 1971، الذي ترك أثراً إيجابياً على الحكومة الهولندية تمثل في تأسيس وحدة الدراسات المستقبلية عام 1974، على غرار تلك التي سبق وأنشأتها الحكومة السويدية عام 1973 بمبادرة من رئيس الوزراء (أولاف بالمه) تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء، وشرعت بريطانيا عبر جامعة ساسكس(Sussex) بتأسيس وحدة للدراسات المستقبلية تركزت جهودها على تطوير التكامل المنهجي (Interdisciplinary) ونقد النماذج الدولية.
أما الدول الاشتراكية فقد تركزت جهودها في مجال الدراسات المستقبلية على المتغيرات المادية لاسيما الاقتصادية والتكنولوجية منها، وأثرهما على مستقبل الظاهرة الاجتماعية، وقد ساهمت أكاديمية العلوم السوفيتية بفروعها المتعددة في مجال التطوير النظري وخاصة في مجال الندوات المستقبلية التي نشطت بشكل ملحوظ منذ عام 1967 من خلال ندوة كييف ولينينغراد، وبرز العالم السوفييتي إيغور لادا (Igor Bestuzhev Lada) في هذا المجال.(5)
كما لا ننسى كارل ماركس الذي أشار في كتابه رأس المال لأهمية القيمة المضافة ودورها مستقبلا في تطوير الاقتصاد ، كما يسجل للينين أنه وضع مؤلفا حمل عنوان ( ما العمل؟ مسائل حركتنا الملحة) عام 1901، وقد لعب دورا مهما في الصراع من أجل الحزب الماركسي ، كما كتب بعد ذلك مقالات بعنوان (من أين نبدأ) ، وكل هذا يشير إلى استباق لتخطيط يتوجه إلى المستقبل.(6)
أما في الدول النامية، فقد كان للدول الفرنكوفونية السبق في هذا المجال بحكم التأثر بالجهود الفرنسية، كما أن بعض دول أمريكا اللاتينية لا سيما الأرجنتين والمكسيك عرفت محاولات عدة، وربما كان العالم العربي آخر الآخذين بهذا الموضوع، فلم تدخل مادة الدراسات المستقبلية كموضوع أكاديمي في الجامعات العربية إلا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولكنها بدأت في الانتشار فيما بعد، وإن كان يغلب عليها الدراسات الانطباعية والفقيرة في توظيف التقنيات العلمية المعتمدة في هذا المجال.
استبصار، استشراف، تخطيط استراتيجي، تميز، جودة، إبداع، ابتكار، مسؤولية مجتمعية، تميز مؤسسي، معرفة، جودة التميز ، منظمات متعلمة.

المراجع:
1. د. ضياء الدين زاهر، سلسلة مستقبليات ، الكتاب الأول 2004، القاهرة ، مركز الكتاب للنشر.
2. محمد عابد الجابري ، آفاق المستقبل العربي “مجلة المستقبل العربي” العدد 156 ، فبراير ، 1992، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية 1992م.
3. د. رحيم الساعدي – المستقبل – مقدمة في علم المستقبلية – الجزء الثاني – الطبعة الأولى 2011 – دار الفراهيد للنشر والتوزيع.
4. فاروق فيله وأحمد الزكي ، الدراسات المستقبلية من منظور تربوي.
5. وليد عبد الحي ، الدراسات المستقبلية ، النشأة والتطور والأهمية.
6. ادوارد كورنيش الاستشراف ، مناه استكشاف المستقبل.

مقالات ذات صلة

الردود

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *