هل تموت المنظمات

هل تموت المنظمات

“هل تموت المنظمات ومتى ؟”
تلعب المنظمات دوراً مهماً في الحياة المعاصرة باعتبارها الوسيلة التي تقوم بتحقيق مختلف الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة والخاصة، وهي التي تتحكم بحياة الإنسان وجوداً وعدماً من لحظات الولادة وحتى الوفاة، ويعد البقاء هدفا تنظيمياً تسعى المنظمات لتحقيقه من خلال مواكبتها للتغير والتغيير التنظيمي، فالمنظمات لم يستحدثها الإنسان لكي تموت، بل إن فكرة موتها أبعد ما يمكن قبوله من قبل المؤسسين طالما كانت ناجحة في عملها، فهي وجدت لتبقى وتستمر وتمارس نشاطها بشكل مستدام، وإلا فلا داعي لوجودها، فهي لا تشبه الكائنات الحية من حيث بقائها ، الا أنها تشبهها من حيث نموها، ومرورها بمراحل حياتية يمكن التنبؤ بها، وتحديد خصائصها في كل مرحلة.
قد تواجه المنظمة مشكلة تتمثل في رغبتها في التغيير والتكيّف مع البيئة الخارجية من أجل بقائها في حالة تنافسية هذا من جهة، ورغبتها في الاستقرار والقدرة على التخمين ومقاومة التغيير من جهة أخرى، فالمنظمة بحاجة إلى الاستقرار كي تنمو، وبذات الوقت بحاجة للتكيف للاستجابة وإقتناص الفرص من التغيرات الهائلة التي تحصل في البيئة، وبذلك تقف حائرة بين التغيير والتكيّف وبين الاستقرار، وقد يصاحب هذه الحيرة عدم وضوح الأهداف، وعدم إدراك العاملين لتلك الأهداف، والترهل الإداري، وتسييس الوظائف الإدارية، والتوسع بالهيكل التنظيمي تلبيةً لرغبة الآخرين وليس لمصلحة المنظمة، ناهيك عن عقلية المدير والمالك الذي يعتبر ذاته المرجع النهائي والوحيد في المنظمة وهو القادر على حل جميع المشكلات دون مشاركة أصحاب الخبرات الذين هم أقدر منه على إبداع الحلول المناسبة لها، وهم الذين يخزنون المعرفة، ويرجع سبب ذلك لعدم وجود الثقة بموظفيه وقيمة ما لديهم من قدرات ومعارف في حل المشكلات، أو خوفا من مطالبته بالحوافز والعلاوات المادية، وفتح شهيتهم لذلك، رغم أنه لن يتردد بالإستعانة بشركات استشارية مرتفعة الكلفة لتعطيه حلولاً نظرية.
ويعتبر عدم التوازن بين البيئة الخارجية والداخلية وكيفية مواكبة عصر المعرفة وتطويرها وتحسيهنا للتحول إلى مجتمع المعرفة من التحديات التي تواجه المنظمة، فالتطور المعرفي واكتساب الخبرات يعكس حياة جديدة للمنظمة تجعلها في نشاط مستمر وتتفاعل مع بيئاتها من خلال الدراسات والتجارب الادارية والممارسات العالمية، ويمكن القول بأن ما يحدد بقاء المنظمات ونجاحها في هذه الظروف المعاصرة والمتغيرة بشكل مستمر هو قدرة المنظمة على التحول إلى منظمة تعلّم بشكل مستمر مما يحدث قيمة مضافة في أعمالها،
إذاً كيف تحافظ المنظمة على بقائها واستمراريتها والصمود والنجاح في مجتمع متطلباته ما فوق التميز؟ وكيف تتأقلم في بيئات تتصف بالمتغيرات الهائلة والمتسارعة؟
ولنتسائل ما هو مصير المنظمات التي لم تبال بالتغييرات في البيئة المحيطة؟ والتي لم تستطع التأقلم والتكيّف معها؟ وهل ماضيها يشفع لها؟
أمامنا حالة لا يمكن تصديقها، ستلقي الضوء على التساؤلات السابقة حيث سيتم تحليلها استراتيجياً وعلمياً للوقوف على الأسباب الحقيقية، وهي صرح شركة كوداك، التي تأسست عام 1892م والتي تعتبر من أوائل شركات التصوير في العالم والتي أصدرت أكثر من ألف براءة اختراع في قطاع التصوير وخدماته المختلفة، والتي تعتبر أيقونة هذه الصناعة حيث وصلت حصتها إلى 90% من السوق الأمريكي، إنها على وشك الإنهيار، على شاكلة حادثة انتحار مؤسسها رجل الأعمال الأمريكي جورج إيستمان الذي انتحر عام 1932م مخلفاً وراءه ملاحظة مكتوب عليها إلى أصدقائي، “عملي قد تم، فلماذا الانتظار؟”، أنها ومنذ أواخر التسعينيات بدأت بسلسلة من المعاناة المالية نتيجة انخفاض مبيعات أفلام التصوير لظهور الكاميرات الرقمية، وعلى الرغم من وجود استراتيحية تدعى (razor-blade strategy) وتعني بيع كاميرات رخيصة والحصول على حصة سوقية كبيرة من أفلام و أوراق التحميض، وتنتهج مبادئ (إنتاج كبير ، تكلفة منخفضة، انتشار عالمي، إعلان قوي، تركيز على الزبون و النمو من خلال البحث المستمر).
ان العصر الرقمي لتقنيات التصوير وسرعة تطوره التي فاقت سرعة استجابة الشركة كوداك للتأقلم مع التغيير ، قد ألغى أهم منتجاتها وهو قطاع الأفلام التقليدية وعملية التحميض، مما زادها غرقاً، فانتشار أجهزة التصوير وأجهزة الطباعة الرقمية قلل من إقبال الناس على هذا النوع من المنتجات، ولم تستطع الشركة تطوير استراتيجية ناجحة في دخول هذا العصر الجديد بشكل منافس واقتصرت مشاريعها على خدمات رقمية غير مركزة، فتأخرها في إنتاج أجهزة تصوير رقمية منافسة أعطى الشركات الأخرى الأفضلية عند دخول هذا السوق وتحقيق الأسبقية في الاستحواذ على ولاء الزبائن، ذلك ما فقدته الشركة في طريقة تعاملها مع شركة (فوجي) اليابانية عند دخولها الأسواق الأمريكية في منتصف القرن الماضي، فهي لم تكترث لذلك ظناً منها أن المستهلكين الأمريكيين لن يرضوا عن علامتها التجارية الأكثر شيوعاً آنذاك بديلاً، ولم تكلف الشركة نفسها عناء دراسة البيئة الخارجية وما يتهددها من منافسة، مما أدى هذا الإهمال والمكابرة إلى فوز شركة فوجي بعقد الفيلم الرسمي لأولمبياد عام 1984 في لوس أنجلوس، وهكذا بدأت شركة كوداك تخسر حصصها السوقية شيئاً فشيئاً”.
كيف غفلت هذه الشركة العملاقة عن استقراء المستقبل؟ ولم تبادر في تغيير اتجاه أشرعتها عن العاصفة أو لما لم تتعامل معها حتى ارتطمت بجبل من الجليد أغرق قرن من العراقة؟ فما هي الأسباب وراء هذه الانتكاسة المفاجأة والتي أغلقت دورة حياتها الكاملة بمرحلة الوفاة، وماذا نستطيع أن نستفيد من هذه التجربة التي امتدت لأكثر من قرن من الزمان؟ وما هي العبر والمعارف التي نستسقيها من هذه التجربة؟
أولاً: تشتت الشركة من كثرة منتجاتها إضافة إلى التناقض بين التوجه إلى العالمية أو البقاء في الأسواق المحلية، والغرور بأن مستهلكيها لن يرضوا عنها بديلاً، فلم تستطيع تحديد خيارها والتركيز عليه بشكل فعال، مما أبعدها عن التركيز الذي هو من أسرار النجاح.
ثانياً: عدم المرونة ومحاكاة الواقع الفعلي بكفاءة وفعالية، فالتغيير ضرورة وليس خياراً، فلم تتبع الطريقة المثلى بما يتوافق مع التغيرات بشكل تدريجي لطيف أو ثوري شامل يشمل كل مناحي العمل، وعدم الاستقراء الصحيح واستشراف المستقبل بالتغيير ، بل بقيت متمسكة بأنها الرائدة في صناعتها وأن أي تغيير لن يؤثر عليها، على الرغم من ظهور مؤشرات حول إعلان شركة سوني أنها سوف تطرح Mavica وهي كاميرا رقمية بدون فيلم ويمكنها عرض الصور على شاشة التلفزيون ويمكن بعدها طباعة الصور على الورق، عندها رغبت كوداك بالتماشي مع هذا التطور لكن بشكل بطيء حتى لا تتسبب بالآلام للشركة من خلال التغيير الجذري في نمط العمل، فأتت متأخرة.
ثالثاً: “طرحت كوداك تساؤلا حول ماهية الموارد الحقيقية للميزة التنافسية التي تملكها؟ هل على الشركة إعادة التموضع بشكل يجعلها تستفيد من إيجابيات تغير الأسواق، أم أنه عليها البقاء على حالها ومواردها الأساسية؟ وبالرغم من العدد الكبير من براءات الاختراع لدى الشركة والتي تدل على شغفها لإبداع الجديد لم نر إنجازات عملية (منتجات) تنافس في السوق خصوصاً عند اعتماد المنافسين على اقتباس اختراعات الشركة وتقديمها بشكل أرخص وأسهل، فعلينا أن نعلم أن الاختراع شي والإنجاز شيء آخر، واعتدادها باختراعاتها التي لم تعد ذات أهمية في العصر الرقمي، كما لم تعر التعاون والتنافس أي اهتمام، من حيث علاقتها مع الشركات المنافسة والشركات الواعدة الصاعدة بقوة، ببناء العلاقات معهم وتشجيعهم على الاندماج والاستحواذ خاصة في حالة المنافسين الصغار، فعندما تستحوذ شركة ما على منافس صغير فإنها تحصل على فرصة الدخول الى سوق جديد لم تكن تعطيه الاهتمام الكافي وكذلك تبني إمكانيات إنتاج وتكنولوجيا جديدة من خلال ما يقدمه هذا المنافس.
رابعاً: المنظمات تتعلم عندما تتميز بسرعة التغير وكثرة التحديات والتقدم المستمر في كافة المجالات مما يساعدها في خلق بيئة مشجعة وقادرة على التفكير والتعلم والإبتكار والتطوير، وكذلك تتميز بقيادة منفتحة مبادرة تعمل باستمرار معتمدة على النهج النظمي في التواصل والاتصال الفعال مما يساعد على التطور وتجنب الكثير من المشكلات، فلم لم تولي كوداك خلال مسيرتها أهمية للمعرفة التراكمية كدروس تتعلم منها ولم تستخدمها بشكل فعال وبإيجابية، مما أحدث فجوة فكرية بين القديم والحديث، وهذا نستنتجه من الفكر الإداري والقيادي للشركة والتي لم تستطع من خلاله مجاراة الأنماط الحديثة المتسارعة التي تشهدها التقنية اليوم بشكل عام وتقنيات التصوير بشكل خاص،
خامساً: عدم امتلاك الإدارة القدرة على التفكير الاستراتيجي الابتكاري المرن من خلال رؤية المستقبل والتنبؤ بمتغيرات السوق والاستجابة السريعة والمرنة لاحتياجات المستهلك والتنبؤ بسلوكه، وإجراء التغيرات والتعديلات على خططها واستراتيجيتها والبحث عن استراتيجيات اكثر واقعية وقدرة على التعبير عن حاجاتها، أي أنها لم تتأقلم وتتناغم مع البيئة الخارجية بتغيير البيئة الداخلية.
فمن يصدق أن هذا الصرح قد انهار ؟
ونخلص إلى أنه بفعل الأزمات الجديدة والأمواج المتلاطمة تشكل حاجز قوي أمام تقدم شركة كوداك، مما أظهر عدم قدرتها على التغيير والتكيف البيئي، وعدم جاهزيتها للتعلم وتقبل الأفكار، مما أحدث فجوة من المعلومات والمهارات المعرفية أبعدتها عن صروح النجاح، متناسية بأن هناك حبل سري يربط البقاء بمشيمة التغير، فأن تعرف أنك محتاج للتغيير شيء وأن تتغير شيء آخر، وأن تعد نفسك للتغيير هو القرار والإرادة، وإن قابلية التغيير تقلل فجوة الموت وتحقق التناغم، خاصة إذا سار التغيير في اتجاه تحقيق المصالح، لكنّ كوداك أبعدت نفسها عن التغيير بمكابرتها وعدم تهيئة وتدريب بيئتها الداخلية على تقبل الأفكار الجديدة، ولم تستفيد من المعارف وقبول التغيير الذي هو واقع مطلوب وليس مجرد استثناء، فحارت جاهزيتها القديمة أمام التقدم الهائل في عصر التكنولوجيا، وخارت قواها وشاخت أفكارها مستدعية شهادة وفاتها.
وكما تتشكل الدوائر إثر الدوائر في بحيرة راكدة عندما ترمي بها حجرا صغيرا وتتوسع تلك المويجات التي أحدثها سقوطه، ولا تتوقف حتى تصل الى الشاطىء الذي يشكل بيئتها الخارجية، وتتفاعل مع بيئته مشكلين تناسق وتناغم لطيف في البيئة، كذلك المنظمات إن لم تكن قادرة على إحداث مويجات تتعدى حدودها ستصتدم ببيئة تحد من انتشارها، وتبقى متقوقعة في عزلة، فمن الضروري أن تتلمس الشركات التغيرات النمطية في بيئتها الخارجية حتى لا تنتهي دون إنذار ، فالمنظمة التي تبقي الحالة الراهنة على وضعها تولد الملل والإجهاد بين أعضائها وقد تتوقف عن النمو عندما لا تتلاءم مع بيئتها وقد ينتهي بها الأمر إلى الزوال.
إذاً لتبقى المنظمات علي قيد الحياة ولتشعر بوجودها بالسوق بشكل متميز ابتكاري يجب التجاوب مع الابتكار وأن تتوقعه وتستشرف المستقبل فيه، حتى لا تكتمل دورة الحياة بالموت وتقف على الجانب الأيمن تستمتع فيما أنجزت وتتغنى بالماضي متناسية منافسيها بعدم تقدير قيمتهم الفكرية وأن تعمل على تقوية البيئة الداخلية من موارد وأنظمة لتكون مستعدة لاستقراء التغيرات الخارجية والتعاطي معها.
وكما يقول العالم الألماني (بيتر سلوترديك): “تجدد أو تبدد”، فيجب علينا أن نعيد النظر في طرق التفكير إثر التحولات والثورات التكنولوجية، وإن كان ثمة عبرة مما حدث لشركة كوداك بأن الثوابت لا تبقى على ثباتها طوال الوقت، و أن ثباتها لقرون من الزمن لا يعني مناعتها ضد التغيير، و أن ذلك التغيير قد يكون سريعاً و صادماً و دون توقع، وإلا لتحولت إلى قطعة أثرية تعرض في متحف التاريخ.

استبصار، استشراف، تخطيط استراتيجي، تميز، جودة، إبداع، ابتكار، مسؤولية مجتمعية، تميز مؤسسي، معرفة، جودة التميز، تغيير.
1. أ. د. محمد قاسم القريوتي، نظرية المنظمة والتنظيم، الأردن، دار وائل للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة، 2005 .
2. أ. د. محمود سلمان العميان، الأردن، دار وائل للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2005 .
3. د. حافظ بن إبراهيم الشحي – قسم نظم المعلومات – كلية التجارة والاقتصاد – جامعة السلطان قابوس.
4. http://www.kodak.com/corp/default.htm
5. صلاح قتصوره ، فلسفة العلم ، القاهرة ، دار الثقافة والطباعة والنشر ، 1981 .
6. حامد أحمد رمضان بدر،( 1993_ 1994م)، إدارة المنظمات اتجاه شرطي، دار النهضة العربية، ص28.
7. عبد الرحمن تيشوري، رابط المصدر:https://hrdiscussion.com/hr9893.html

مقالات ذات صلة

الابتكار

تعريف الابتكار الابتكار هو عملية إنشاء وتطوير فكرة جديدة أو تحويل فكرة موجودة إلى حقيقة ملموسة. إنها عملية تتطلب التفكير الإبداعي والتخيل والاستعداد للتغيير. يتميز…

الردود

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *